إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي في المسالك في شرح موطأ مالك، كتاب الجنائز، النهي أن تتبع الجنازة بنار(المسألة الثامنة، فإذا أدخل الميت قبره فإنّه يستحبُّ تلقينه في تلك السَّاعة وهو مستحبٌّ وهو فعلُ أهل المدينة والصالحين والأخيار لأنّه مطابِقٌ لقوله تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وأحوج ما يكون العبد إلى التّذكير بالله تعالى عند تغيّر الحال وخروج الرُّوح وعند سؤال الملك لأنّه يخاف عند ذلك أنّ يختلسه الشّيطان فَيُذَكَّر بالله تعالى ولقوله (لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ لَا إِلَهَ إِلا الله).
قال الإمام (ولهذه النكتة اختلفَ استفتاحُ المصنِّفينَ في كتبهم في الجنائز، فأمّا البخاريّ فقال في كتاب الجنائز (مفتاح الجنّة لا إله إلَّا الله) وأمّا مسلم فقال (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إلا الله) لهذا المعنى لأنّه موضع يتعرّض الشيطان فيه لإفساد اعتقاده ودينه وآخرته ويجتهد في ذلك، فأمَر النّبيُّ صلّى الله عليه وسلم بذلك ليكون تذكيرًا له وتَنْبِيهًا لما وعدَ به صلّى الله عليه وسلم ولما وقعَ في الحديثِ الآخَرِ أنّه (مَنْ كَانَ آخِرَ كَلاَمِهِ لَا إِلَهَ إلَّا الله دَخَلَ الْجَنَّةَ)). اهـ
وقال الإمام المفسّرُ القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 343 ط مكتبة دار المنهاج) قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (ينبغي أن يُرشَد الميتُ في قبره حيث يوضع فيه إلى جواب السؤال ويُذَكَّر بذلك فيقال له قل الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد رسولي فإنه عن ذلك يُسأَل كما جاءت به الأخبار على ما يأتي إن شاء الله، وقد جرى العمل عندنا بقرطبة كذلك). اهـ
وقال الإمام الحافظ تقي الدين بن دقيق العيد المالكي الشافعي في نهاية البيان (إنه لا بأس به فقد رُوِيَ أنه كان سُنّةَ السلف) نقلا عن كتاب المعين على فعل سنة التلقين (ق 2 – ب) للحافظ الناجي.
وفي المدخل المؤلف لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج (المتوفى 737هـ) (وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ، وَرَوَى رَزِينٌ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ (اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُك نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَاغْفِرْ لَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلِيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ فَيتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقَبْرِ فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَيَكُونُ التَّلْقِينُ بِصَوْتٍ فَوْقَ السِّرِّ وَدُونَ الْجَهْرِ فَيَقُولُ (يَا فُلَانُ لَا تَنْسَ مَا كُنْت عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَاءَك الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَسَأَلَاك فَقُلْ لَهُمَا اللَّهُ رَبِّي، وَمُحَمَّدٌ نَبِييِّ، وَالْقُرْآنُ إمَامِي، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَتِي) وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَفِيفٌ، وَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّلْقِينِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ لِحُضُورِ النَّاسِ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ). اهـ
وقال الشيخ أبو علي البجائي المالكي: كان السلف إذا دُفِن الميت وقفوا عنده، فيقولون يا فلان، لا تنس ما فارقتنا عليه في دار الدنيا شهادةَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله). اهـ نقلا عن الإيضاح والتبيين لمسألة التلقين للحافظ السخاوي ص 183.
 

 وفي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي، كتاب الجنائز، مسائل متعلقة بالغسل والدفن والصلاة، فرع كيفية الغسل (وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِاسْتِحْبَابِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَالْإِرْشَادِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّلَّاعِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِالشَّوَاهِدِ وَعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِّ قَدِيمًا وَقَالَ الْمَتْيَوِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ إنْسَانٌ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عَقِبَ دَفْنِهِ وَيَقُولَ لَهُ يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ، أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَوْ يَا أَمَةَ اللَّهِ اُذْكُرْ الْعَهْدَ الَّذِي خَرَجْت عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبِالْمُسْلِمِينَ إخْوَانًا رَبِّي اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). انْتَهَى

وفي التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب لسيّدي خليل بن إسحاق بن موسى ضياء الدين الجندي المالكي المصري (المتوفى 776 هـ) كتاب الصلاة، صلاة الجنائز (ويُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ الشَّهَادَةَ وتَغْمِيضُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ) لقوله عليه الصلاة والسلام (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) أخرجه مسلم والترمذي ولقوله عليه الصلاة والسلام (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود والترمذي وقال عبد الحق فيه حسن صحيح.
وفي التبصرة للإمام الكبير علي بن محمد الربعي أبي الحسن المعروف باللخمي (المتوفى 478 هـ)
باب في تلقين الميت وغسله وتجريده والماء الذي يغسل به والثوب الذي ينشف به واغتسال غاسله (يلقن الميت عند الاحتضار لا إله إلا الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ أخرجه مسلم ولقوله مَنْ كانَ آخِرُ قَوْلهِ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الجَنّة ويعاد ذلك عليه مرة بعد مرة ويجعل بينهما مهلة، ويستحب أن يقرأ عنده القرآن، ويكون عنده طيب….) إلخ.
 
  أحبابنا الكرام، قد استحبّ علماء المسلمين ذلك سلفهم وخلفهم وانظروا إلى الإمام القرطبي صاحب التفسير المشهور فقد أفرد للتلقين باباً من كتابه التذكرة بأحوال الموتى والآخرة (ص 138 – 139) أسماه باب ما جاء في تلقين الإنسان بعد موته شهادة الإخلاص في لحده، وقد ذكر أن العمل جرى في قرطبة على تلقين الميت واستشهد بنصيحة شيخه أبي العباس القرطبي في جواز التلقين.