إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

وقال التقي السبكي رحمه الله (ومَن أطلق القُعود وقال إنَّه لم يُرِدْ صفات الأجسام قال شيئًا لم تشهد به اللغة فيكون باطلًا وهُو كالمُقِرِّ بالتَّجسيم المُنكر له) فانظر كيف ألزم الإمام السبكي من قال بالقعود في حق الله وجعله مذهبًا له، ولم يعذره بقوله (لم يرد صفات الأجسام) كذلك نحن نلزم المشبهة بالتجسيم ونجعله مذهبًا لهم ولو قالوا بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه، يعني طالما وصف الله بالقعود ولو قال أنا لا ألتزم لوازم القعود في حق الله كما يفعل بعض المشبهة فلا يكون معذورًا ولا يزول عنه حكم الكفر فمن لم يُكفِّر مَن قال عن الله جسم وهو عالم بالمعنى لأنه قال لا ألتزم لوازم الجسم كيف يحكم بالكفر على من قال يتعب لا كالناس! وينام لا كالناس! هذا شتم لله تعالى فيكون كفرًا باتفاق العلماء.

وجاء في المنهاج القويم على المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحضرمي (واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك) ومثل ذلك نقل ملا علي القاري في كتابه المرقاة في شرح المشكاة وهذا القدر من الشرح كاف في بيان أن لازم المذهب إذا كان واضحًا فهو مذهب وأن من قال عن الله إنه جسم وهو عالم بالمعنى فقد كفر بالله ولو قال لا ألتزم لوازمه كما أن من يعرف معنى كلمة الابن وقال المسيح ابن الله كذلك يكفر ولو قال لا نلتزم في بنوة عيسى لله ما نلتزمه في غيرها!

وثبت تكفيرُ المُجسِّمة عن الأئمَّة أبي حنيفة ومالك والشَّافعيِّ وأحمدَ وعن إمامَي أهل السُّنَّة في الأُصول الأشعريِّ والماتُريديِّ، والجسم هُو المُتركِّب المُتألِّف فمَن قال (الله جسم) وسكت أو زاد (لا كالأجسام) عالِمًا بالمعنى وقع تحت قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم (إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النَّارِ سبعينَ خريفًا) رواه التِّرمذيُّ وفي معناه حديث رواه البُخاريُّ ومُسلم، وكُلُّ هذا بإجماع عُلماء الأُمَّة بلا خلاف بين المُعتبَرين، وأشدُّ العُلماء على أهل الأهواء الإمام مالك فقد روى عنه الإمام المُجتهد ابن المُنذر أنَّه قال باستتابة أهل الأهواء فإنْ تابوا وإلَّا ضُرِبَت أعناقُهُم، وأهل الأهواء هُمُ الَّذين ابتدعوا في الاعتقاد كالمُعتزلة والمُشبِّهة المُجسِّمة والجبريَّة إلى آخر فِرَقِهِم، فلا يخدعكُم أهل الفتنة بما يتقوَّلون به على العُلماء بلا بيِّنة شرعيَّة اعتمادًا على أفهامهم السَّقيمة دون مرجع صالح.

 فثبت أننا وافقنا علماءَ الأُمَّة وأنهم خالفوهم والعياذ بالله يعني يخالفون هم علماء الأمة ونوافق نحن العلماء ثم يسبقون إلى اتهامنا بأننا خالفنا العلماء وانفردنا بأقوال غريبة وما الغريب إلا ما أتوا من تكذيب العلماء ومخالفتهم، ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد بن حنبل أنه قال (من قال (عن الله) جسم لا كالأجسام كفر) ويؤكد هذا حكايةُ الإجماع التي نقلها كثيرون في تكفير المجسم والشافعي من علماء الأمة فهو داخل فيمن أجمع على كفر المجسمة بلا شك ويؤكده كذلك أن الشافعي رضي الله عنه كفَّر حفصًا الفرد باللازم أي بلازم قوله لأنه كان لازمًا بيِّنًا والعلماء نقلوا قول الشافعي في تكفير المجسمة في محل الاحتجاج فهذا يعني أنه ثابت عندهم فالقاضي حسين نقل أن الشافعي نصَّ على كفر من قال الله جالس على العرش ونقل ابن المعلم القرشي في نجم المهتدي نحوه ونقل ابن جماعة تكفير المجسمة في شرح التنبيه عن نَصِّ الشافعي (يعني من كلامه بحروفه) وحكاه كذلك السيوطي في الأشباه والنظائر ولذلك أصلا علماء الإسلام ألزموا المجسمة بمقالاتهم لأنهم عدُّوهم واعين بما يتلفظون.

يكمل في الجزء الخامس